كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



المفسِّرون يقولون: من أنصارى مع الله، وهو وجه حسن. وإنما يجوز أن تجعل (إلى) موضع (مع) إذا ضممت الشيء إلى الشيء مما لم يكن معه؛ كقول العرب: إن الذود إلى الذود إبل؛ أي إذا ضممت الذود إلى الذود صارت إبلا. فإذا كان الشئ مع الشئ لم تصلح مكان مع إلى، ألا ترى أنك تقول: قدم فلان ومعه مال كثير، ولا تقول في هذا الموضع: قدِم فلان وإليه مال كثير. وكذلك تقول: قدم فلان إلى أهله، ولا تقول: مع أهله، ومنه قوله: {وَلا تَأْكُلُوا أمْوالَهُمْ إِلَى أَمْوالِكُمْ} معناه: ولا تضيفوا أموالهم إلى أموالكم.
والحواريُّون كانوا خاصَّة عيسى. وكذلك خاصة رسول الله صلى الله عليه وسلم يقع عليهم الحواريّون. وكان الزبير يقال له حوارىّ رسول الله صلى الله عليه وسلم. وربما جاء في الحديث لأبى بكر وعمر وأشباههما حوارىّ. وجاء في التفسير أنهم سُمُّوا حواريين لبياض ثيابهم.
{وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}.
ومعنى قوله: {وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللَّهُ}.
نزل هذا في شأن عيسى إذ أرادوا قتله، فدخل بيتا فيه كوّة وقد أيَّده الله تبارك وتعالى بجبريل صلى الله عليه وسلم، فرفعه إلى السماء من الكوّة، ودخل عليه رجل منهم ليقتله، فألقى الله على ذلك الرجل شَبَه عيسى بن مريم. فلمّا دخل البيت فلم يجد فيه عيسى خرج إليهم وهو يقول: ما في البيت أحد، فقتلوه وهم يَرُون أنه عيسى. فذلك قوله: {وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللَّهُ} والمكر من الله استدراج، لا على مكر المخلوقين.
وقوله: {إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ (55)} يقال: إن هذا مقدّم ومؤخّر. والمعنى فيه: إني رافعك إلىّ ومطهّرك من الذين كفروا ومتوفّيك بعد إنزالي إيّاك في الدنيا. فهذا وجه.
وقد يكون الكلام غير مقدّم ولا مؤخّر فيكون معنى متوفّيك: قابضك كما تقول: توفيت مالي من فلان: قبضته من فلان. فيكون التوفّي على أخذه ورفعه إليه من غير موت.
وقوله: {إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ (59)} هذا لقول النصارى أنه ابنه إذ لم يكن أب، فأنزل اللّه تبارك وتعالى علوّا كبيرا: {إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ} لا أب له ولا أم، فهو أعجب أمرا من عيسى، ثم قال: {خَلَقَهُ} لا أن قوله: {خَلَقَهُ} صلة لآدم إنما تكون الصلات للنكرات كقولك: رجل خلقه من تراب، وإنما فسّر أمر آدم حين ضرب به المثل فقال: {خَلَقَهُ} على الانقطاع والتفسير، ومثله قوله: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ} ثم قال: {يَحْمِلُ أَسْفارًا} والأسفار: كتب العلم يحملها ولا يدرى ما فيها. وإن شئت جعلت {يَحْمِلُ} صلة للحمار، كأنك قلت: كمثل حمار يحمل أسفارا لأن ما فيه الألف واللام قد يوصل فيقال: لا أمر إلا بالرجل يقول ذلك، كقولك بالذي يقول ذلك. ولا يجوز في زيد ولا عمرو أن يوصل كما يوصل الحرف فيه الألف واللام.
وقوله: {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ (60)} رفعته بإضمار (هو) ومثله في البقرة: {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ} أي هو الحق، أو ذلك الحق فلا تمتر.
وقوله: {تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ (64)} وهى في قراءة عبد اللّه إلى كلمة عدل بيننا وبينكم وقد يقال في معنى عدل سوى وسوى، قال اللّه تبارك وتعالى في سورة طه: {فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكانًا سُوىً} وسوى يراد به عدل ونصف بيننا وبينك.
ثم قال: {أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ} فأن في موضع خفض على معنى: تعالوا إلى ألّا نعبد إلا اللّه. ولو أنك رفعت (ما نعبد) مع العطوف عليها على نية تعالوا نتعاقد لا نعبد إلا اللّه لأن معنى الكلمة القول، كأنك حكيت تعالوا نقول لا نعبد إلا اللّه. ولو جزمت العطوف لصلح على التوهّم لأن الكلام مجزوم لو لم تكن فيه أن كما تقول: تعالوا لا نقل إلا خيرا.
ومثله مما يرد على التأويل {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ} فصيّر {ولا تكونن} نهيا في موضع جزم، والأول منصوب، ومثله: {وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ} فردّ أن على لام كى لأن (أن) تصلح في موقع اللام. فردّ أن على أن مثلها يصلح في موقع اللام ألا ترى أنه قال في موضع {يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا} وفى موضع {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا}.
وقوله: {لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ (65)} فإن أهل نجران قالوا: كان إبراهيم نصرانيّا على ديننا، وقالت اليهود: كان يهوديا على ديننا، فأكذبهم اللّه فقال: {وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ} أي بعد إبراهيم بدهر طويل، ثم عيّرهم أيضا.
فقال: {ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ (66)} إلى آخر الآية. ثم بيّن ذلك.
فقال: {ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا (67)} إلى آخر الآية.
وقوله: {لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (70)} يقول: تشهدون أن محمدا صلى اللّه عليه وسلم بصفاته في كتابكم. فذلك قوله: {تشهدون}.
وقوله: {لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ (71)} لو أنك قلت في الكلام: لم تقوم وتقعد يا رجل؟ على الصرف لجاز، فلو نصبت (وتكتموا) كان صوابا.
وقوله: {وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ (72)} يعنى صلاة الصبح {وَاكْفُرُوا آخِرَهُ} يعنى صلاة الظهر. هذا قالته اليهود لمّا صرفت القبلة عن بيت المقدس إلى الكعبة فقالت اليهود: صلّوا مع محمد صلى الله عليه وسلم الصبح، فإذا كانت الظهر فصلّوا إلى قبلتكم لتشكّكوا أصحاب محمد في قبلتهم لأنكم عندهم أعلم منهم فيرجعوا إلى قبلتكم.
فأما قوله: {وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ (73)} فإنه يقال: إنها من قول اليهود. يقول: ولا تصدقوا إلا لمن تبع دينكم.
واللام بمنزلة قوله: {عَسى أن يكون رَدِفَ لَكُمْ} المعنى: ردفكم.
وقوله: {أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ (73)} يقول: لا تصدّقوا أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم. أوقعت تُؤْمِنُوا على أَنْ يُؤْتى كأنه قال: ولا تؤمنوا أن يعطى أحد مثل ما أعطيتم، فهذا وجه.
ويقال: قد انقطع كلام اليهود عند قوله: {وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ}، ثم صار الكلام من قوله قل يا محمد إن الهدى هدى اللّه أن يؤتى أحد مثل ما أوتى أهل الإسلام، وجاءت (أن) لأنّ في قوله: {قُلْ إِنَّ الْهُدى} مثل قوله: إن البيان بيان اللّه، فقد بيّن أنه لا يؤتى أحد مثل ما أوتى أهل الإسلام. وصلحت (أحد) لأن معنى أن معنى لا كما قال تبارك وتعالى: {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} معناه: لا تضلّون. وقال تبارك وتعالى: {كَذلِكَ سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهِ} أن تصلح في موضع لا.
وقوله: {أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ} في معنى حتّى وفى معنى إلّا كما تقول في الكلام: تعلّق به أبدا أو يعطيك حقّك، فتصلح حتّى وإلّا في موضع أو.
وقوله: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ (75)} كان الأعمش وعاصم يجزمان الهاء في يؤدّه، و{نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى}، و{أَرْجِهْ وَأَخاهُ}، و{خَيْرًا يَرَهُ}، و{شَرًّا يَرَهُ}. وفيه لهما مذهبان أمّا أحدهما فإن القوم ظنّوا أن الجزم في الهاء، وإنما هو فيما قبل الهاء. فهذا وإن كان توهّما، خطأ. وأمّا الآخر فإن من العرب من يجزم الهاء إذا تحرّك ما قبلها فيقول ضربته ضربا شديدا، أو يترك الهاء إذ سكّنها وأصلها الرفع بمنزلة رأيتهم وأنتم ألا ترى أن الميم سكنت وأصلها الرفع. ومن العرب من يحرّك الهاء حركة بلا واو، فيقول ضربته (بلا واو) ضربا شديدا. والوجه الأكثر أن توصل بواو فيقال كلمتهو كلاما، على هذا البناء، وقد قال الشاعر في حذف الواو:
أنا ابن كلاب وابن أوس فمن يكن ** قناعه مغطيّا فإنّى لمجتلى

وأمّا إذا سكن ما قبل الهاء فإنهم يختارون حذف الواو من الهاء فيقولون: دعه يذهب، ومنه، وعنه. ولا يكادون يقولون: منهو ولا عنهو، فيصلون بواو إذا سكن ما قبلها وذلك أنهم لا يقدرون على تسكين الهاء وقبلها حرف ساكن، فلمّا صارت متحرّكة لا يجوز تسكينها اكتفوا بحركتها من الواو.
وقوله: {إِلَّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِمًا} يقول: ما دمت له متقاضيا. والتفسير في ذلك أن أهل الكتاب كانوا إذا بايعهم أهل الإسلام أدّى بعضهم الأمانة، وقال بعضهم: ليس للأمّيّين- وهم العرب- حرمة كحرمة أهل ديننا، فأخبر اللّه- تبارك وتعالى- أنّ فيهم أمانة وخيانة فقال تبارك وتعالى: {وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} في استحلالهم الذهاب بحقوق المسلمين.
وقوله: {بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79)} تقرأ: تعلّمون وتعلمون، وجاء في التفسير: بقراءتكم الكتب وعلمكم بها.
فكان الوجه {تعلمون} وقرأ الكسائىّ وحمزة {تعلّمون} لأن العالم يقع عليه يعلّم ويعلم.
وقوله: {وَلا يَأْمُرَكُمْ... (80)}.
أكثر القراء على نصبها يردونها على {أن يؤتيه اللّه}: ولا أن يأمركم. وهى في قراءة عبد اللّه {ولن يأمركم} فهذا دليل على انقطاعها من النسق وأنها مستأنفة، فلمّا وقعت (لا) في موقع (لن) رفعت كما قال تبارك وتعالى: {إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ} وهى في قراءة عبد اللّه {ولن تسأل} وفى قراءة أبىّ {وما تسأل عن أصحاب الجحيم}.
وقوله: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ (81)} ولما آتيتكم، قرأها يحيى بن وثّاب بكسر اللام يريد أخذ الميثاق للذين آتاهم، ثم جعل قوله: {لتؤمننّ به} من الأخذ كما تقول: أخذت ميثاقك لتعملنّ لأن أخذ الميثاق بمنزلة الاستحلاف. ومن نصب اللام في (لما) جعل اللام لا ما زائدة إذ أوقعت على جزاء صيّر على جهة فعل وصيّر جواب الجزاء باللام وبإن وبلا وبما، فكأنّ اللام يمين إذ صارت تلقى بجواب اليمين. وهو وجه الكلام.
وقوله: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا (83)} أسلم أهل السموات طوعا. وأما أهل الأرض فإنهم لمّا كانت السّنّة فيهم أن يقاتلوا إن لم يسلموا أسلموا طوعا وكرها.
وقوله: {فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا (91)} نصبت الذهب لأنه مفسّر لا يأتى مثله إلا نكرة، فخرج نصبه كنصب قولك:
عندى عشرون درهما، ولك خيرهما كبشا. ومثله قوله: {أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِيامًا}.
وإنما ينصب على خروجه من المقدار الذي تراه قد ذكر قبله، مثل ملء الأرض، أو عدل ذلك، فالعدل مقدار معروف، وملء الأرض مقدار معروف، فانصب ما أتاك على هذا المثال ما أضيف إلى شيء له قدر كقولك: عندى قدر قفيز دقيقا، وقدر حملة تبنا، وقدر رطلين عسلا، فهذه مقادير معروفة يخرج الذي بعدها مفسّرا لأنك ترى التفسير خارجا من الوصف يدلّ على جنس المقدار من أي شيء هو كما أنك إذا قلت: عندى عشرون فقد أخبرت عن عدد مجهول قد تمّ خبره، وجهل جنسه وبقي تفسيره، فصار هذا مفسّرا عنه، فلذلك نصب.
ولو رفعته على الائتناف لجاز كما تقول: عندى عشرون، ثم تقول بعد: رجال، كذلك لو قلت: ملء الأرض، ثم قلت: ذهب، تخبر على غير اتّصال.
وقوله: {وَلَوِ افْتَدى بِهِ} الواو هاهنا قد يستغنى عنها، فلو قيل ملء الأرض ذهبا لو افتدى به كان صوابا. وهو بمنزلة قوله: {وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} فالواو هاهنا كأن لها فعلا مضمرا بعدها.
وقوله: {إِلَّا ما حَرَّمَ إسرائيل عَلى نَفْسِهِ... (93)}.
يذكر في التفسير أنه أصابه عرق النسا فجعل على نفسه إن برأ أن يحرّم أحبّ الطعام والشراب إليه، فلمّا برأ حرّم على نفسه لحوم الإبل وألبأنها، وكان أحبّ الطعام والشراب إليه.
وقوله: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ... (96)}.
يقول: إنّ أوّل مسجد وضع للناس {للّذى ببكّة} وإنما سمّيت بكّة لازدحام الناس بها يقال: بكّ الناس بعضهم بعضا: إذا ازدحموا.
وقوله: {هُدىً} موضع نصب متبعة للمبارك. ويقال إنما قيل: مباركا لأنه مغفرة للذنوب.
وقوله: {فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ... (97)}.
يقال: الآيات المقام والحجر والحطيم، وقرأ ابن عباس «فيه آية بيّنة» جعل المقام هو الآية لا غير.
وقوله: {وَمَنْ كَفَرَ} يقول: من قال ليس علىّ حجّ فإنما يجحد بالكفر فرضه لا يتركه.
وقوله: {مَنْ آمَنَ تَبْغُونَها عِوَجًا... (99)}.
يريد السبيل فأنّثها، والمعنى تبغون لها. وكذلك {يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ}: يبغون لكم الفتنة. والعرب يقولون: ابغني خادما فارها، يريدون: ابتغه لى، فإذا أرادوا:
ابتغ معى وأعنّى على طلبه قالوا أبغنى (ففتحوا الألف الأولى من بغيت، والثانية من أبغيت) وكذلك يقولون: المسنى نارا وألمسنى، واحلبنى وأحلبنى، واحملني وأحملنى، واعكمنى وأعكمنى فقوله: احلبنى يريد: احلب لى أي اكفنى الحلب، وأحلبنى:
أعنّى عليه، وبقيته على مثل هذا.
وقوله: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا... (103)}.
الكلام العربىّ هكذا بالباء، وربما طرحت العرب الباء فقالوا: اعتصمت بك واعتصمتك قال بعضهم:
إذا أنت جازيت الإخاء بمثله ** وآسيتنى ثم اعتصمت حباليا

فألقى الباء. وهو كقولك: تعلّقت زيدا، وتعلقت بزيد. وأنشد بعضهم:
تعلّقت هندا ناشئا ذات مئزر ** وأنت وقد قارفت لم تدر ما الحلم

وقوله: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ... (106)}.
لم يذكّر الفعل أحد من القرّاء كما قيل {لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها} وقوله: {لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ} وإنما سهل التذكير في هذين لأن معهما جحدا، والمعنى فيه: لا يحلّ لك أحد من النساء، ولن ينال اللّه شيء من لحومها، فذهب بالتذكير إلى المعنى، والوجوه ليس ذلك فيها، ولو ذكّر فعل الوجوه كما تقول: قام القوم لجاز ذلك.
وقوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ} يقال: (أمّا) لابد لها من الفاء جوابا فأين هى؟ فيقال: إنها كانت مع قول مضمر، فلمّا سقط القول سقطت الفاء معه، والمعنى- واللّه أعلم- فأمّا الذين اسودّت وجوههم فيقال: أكفرتم، فسقطت الفاء مع (فيقال). والقول قد يضمر. ومنه في كتاب اللّه شيء كثير من ذلك قوله: {وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا} وقوله: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا} وفى قراءة عبد اللّه {ويقولان ربّنا}.
وقوله: {تِلْكَ آياتُ اللَّهِ... (108)}.
يريد: هذه آيات اللّه. وقد فسّر شأنها في أوّل البقرة.
وقوله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ... (110)}.
في التأويل: في اللوح المحفوظ. ومعناه أنتم خير أمّة كقوله: {وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ}، و{إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ} فإضمار كان في مثل هذا وإظهارها سواء.
وقوله: {يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ... (111)}.
مجزوم لأنه جواب للجزاء ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ مرفوع على الائتناف، ولأن رءوس الآيات بالنون، فذلك مما يقوّى الرفع كما قال: {وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} فرفع، وقال تبارك وتعالى: {لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا}.